الهوية




إن الهوية هي سقف المجتمع، وتحته تنضوي منظومة القيم التي تتحول إلى سلوكيات تضبط حياة الناس من خلال تحديد ما هو مناسب وما هو غير مناسب، ما يجوز وما لا يجوز، ما يقبله العرف وما يرفضه، فهي إذن السقف الحاضن لكل السلوكيات والمعاملات والتعاقدات في المجتمع، وبما أن المجتمع ما هو إلا مجموعة أسر، وبما أن الأسرة لا تبدأ إلا من جلسة العقد التي تصهر عنصرين من المجتمع في عملية "مصاهرة" فيمكننا أن نعتبر هذه الجلسة ميلاد جزء من أجزاء المجتمع، وبالتالي انهيار الأسرة انهيار قطعة من هذا المجتمع....

تعال معي قليلا إلى بيت كبير، ولتتأمل تماسكه وقوته وصلابته وجماله، هكذا يبدو المجتمع من الخارج، فإذا طلبت منك أن تهدم هذا البيت فإن أول شيء ستبدأ به هو تلك اللبنات تنقضها واحدة واحدة، إلى أن يسقط ذلك البناء الجميل، من هنا فإن كل زواج جديد هو ياجورة جديدة تأخذ مكانها من البناء، وكل انفصال هو ياجورة أزيلت من مكانها وحفرة صغيرة ظهرة في هذا البيت الكبير.
إن مشروع إبليس أن يحتنك ذرية آدم ويسوقها إلى حيث يريد {لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} لذلك فإن إبليس حريص على منع الزواج وعلى تحديد النسل حتى لا يزداد عبؤه، فكل مولود مسلم هو تحد جديد ومهمة جديدة تحتاج شيطانا صغيرا ليتابع هذا الملف ويضبطه كي لا يخرج عن السرب، من أجل هذا فإن أعظم إنجاز يحققه إبليس أن يفرق بين المرء وزوجه. إذا فهمت هذا ستدرك أهمية الأسرة في الإسلام، ولماذا اهتم القرآن بأدق تفاصيل الحياة الزوجية...
هذه التصرفات التي تجعلك تحترم الكبير وتجعل الصغير يوقرك، وتعلمك ما ينبغي تجاه الجار وتجاه الأقارب، وما تقوله في هذا الموقف وما تجيب به من بادرك بموقف ما، هي مجموعة ضمن كتيب صغير مدمج في عقلك الباطن، أسميه "نظام التشغيل" ويسميه الشرع "عرفا" قد كتب على مر السنين، وتراكمت فيه الخبرات والمؤثرات الاجتماعية والدينية، حتى أصبح دستورا خفيا يحترمه المجتمع ويعمل وفق قوانينه وتعاليمه، فالرجل يكرم أباه كي لا يكون مسخوط الوالدين، والمرأة تلبس الجلابية والقب والنقاب، لأنه هكذا ينبغي أن تكون حسب نظام التشغيل، وهي تمشي على استحياء كي توصف بأنها "بنت الأصول" وكي لا يثبت على صفحتها شيء مما يلطخ سمعتها، ثم يأتي الخطاب الديني ليعزز هذه المنظومة ويربطها بنظام الثواب والعقاب الأخروي، بينما هي في الأصل نظام عيش متكامل مستمد من الشريعة والتجربة والحكمة القديمة المتوارثة. إن الدين مكمل أساسي لهذا النظام، فهو الذي يعطيه البعد الأخروي وهو الذي يصلح منه ما فسد بسبب انحراف المجتمع، وهو –أي الدين- الذي يمثل الرقابة الذاتية لضمير الإنسان وضمير المجتمع....
"نظام التشغيل" هذا، هو ما كان يجعل الأسر مستقرة تمام الاستقرار، لأن الرجل عندما يتقدم لخطبة فتاة، فإنه لن يحتاج أن يعلمها كيفية التعامل معه ومع أقاربه وما هي مسؤولياتها وما هي واجباته، لقد كانا يعملان كلاهما بنفس "نظام التشغيل" وبالتالي لا يحتاجان إلى دورات أو خبرات أو كتيبات، وليسا بحاجة إلى فترة تفاهم تسبق الزواج، بل قد تجدهما أميّين لم يتعلما، ومع ذلك يعيشان في أسرة مستقرة ويقضيان حياتهما في غاية التكامل.
تعليقات